بجمع المراقبون والباحثون على حدوث متغيرات جذرية في منطقتنا العربية يصعب التكهن معها بمآل الأمور وذلك كنتيجة طبيعية لما حصل جراء ما سمي بالربيع العربي.
صحيح أن ما حصل لمنطقتنا وبلادنا العربية أدى إلى خراب ودمار زعزع بنية الأوطان ما أدى إلى هجرة قسم من مجتمعاتها وتشريد شعوب تنتمي إلى حضارات تمتد لآلاف السنين الأمر الذي هدد التركيبة البنيوية لوحدة المجتمع وتنوع الثقافات التي لطالما كانت مصدراً للتباهي ترجمت بعنوان العيش المشترك بين مختلف الأديان والثقافات والحضارات.
بيد أن سواد المشهد لم يحجب إمكانية الرؤية التفاؤلية ولو كانت الرؤية من زاوية أخرى تنبئ بإمكانية انكشاف نهاية النفق المظلم وانبلاج المستقبل بتفاؤل قادم بعد انقلاب المشهد من عتمة السواد إلى رؤية واضحة على الرغم من التشاؤم الذي رافق الكثيرين بعدم إمكانية استعادة وحدة الأوطان الاجتماعية والجغرافية.
وإذا نظرنا من الزاوية الأخرى أو من الجانب الملآن من الكوب لاكتشفنا الضوء الذي ينبئ بنهاية النفق.
راهن العالم على إسقاط سورية العروبة بعد تنفيذ أشرس مؤامرة كونية على قلب العروبة لكن وبعد ثماني سنوات عجاف مرت على سورية وشعبها مورست خلالها أبشع أنواع التنكيل بوطن ومجتمع شكل عصب التاريخ وبقي عصياً على الاستعمار رافضاً لأشكال التبعية.
نستطيع القول إن الجمهورية العربية السورية وبعد هذا المخاض بقيت صامدة شامخة وإن سورية استطاعت بصمودها من تنظيف نفسها من أعداء الداخل وتحررت من ضغوطات خارجية وبقيت مالكة لقرارها السيادي من دون أي تفريط بالمبادئ التي قامت عليها الجمهورية العربية السورية.
سورية صارت أكثر نضجاً وأصبحت الميزان والممر الإلزامي الضامن لأمن المنطقة.
إيران صارت أكثر صلابة وقوة من ذي قبل بحيث أنها صارت إحدى مراكز القوى الأساسية في المنطقة.
الشعب الفلسطيني بمعظمه بات يدرك عقم الاتفاقات المذلة مع المحتل الإسرائيلي وعاد للتمسك بمبدأ المقاومة كسبيل وحيد لتحقيق تحرير فلسطين بالإضافة إلى ضمان حق العودة.
انكشاف وهن العدو الإسرائيلي من الداخل بعد نجاح محور المقاومة بتعطيل إمكاناته تحقيق أي انتصار ساحق كما كان العدو يفعل سابقاً.
انكشاف عقم الدور المنوط بالأمم المتحدة بضرورة البحث في إدخال إصلاحات جذرية إلى دينامية ونظم عمل الأمم المتحدة بعد عجزها في تحقيق المبادئ وتنفيذ القوانين التي أنشئت من أجلها والهادفة إلى تحقيق الأمن والسلم والعدل بين الدول والشعوب الأمر الذي أدى إلى غياب تام في تنفيذ قراراتها الدولية خصوصاً في ما خص القضية الفلسطينية نتيجة السيطرة الأميركية على قرارات الأمم المتحدة وقدرتها على تعطيل تنفيذها لطالما لا تتوافق ومصلحة أميركا وإسرائيل.
كان العالم محكوماً من خلال نظام أحادي ومن الجانب الأميركي تحديداً لكننا اليوم وبعد صمود سورية وتضحياتها نستطيع القول إن هذا النظام أعلن بنفسه عن انتهاء صلاحيته وزواله بعد تبيان إخفاقه.
اليوم نحن نشهد بروز نظام عالمي جديد أقطابه متعددة تجمعهم مصالح مشتركة تبدأ بالتصدي لنظام النيوليبرالية والعولمة المتوحشة وصولاً إلى القبول بمبدأ تعدد الحضارات مع الحرص على تشبيك المصالح الأمنية والاقتصادية خصوصاً بعد انكشاف الدور الأميركي في اختلاق الأزمات والحروب بهدف الاستيلاء والسيطرة على مقدرات البلدان المنتجة للنفط والغاز ونهب أموالها ولمنع تطور الدول الصناعية مثل الصين خوفاً من سيطرة الأخيرة على السوق العالمي.
وأهم من يعتقد أن الحرب الأميركية الاقتصادية الشرسة على إيران هي حرب بسبب سلوكها بيد أن الحرب الأميركية الإسرائيلية الخليجية على إيران هي لمنعها من امتلاك التكنولوجيا النووية ومنع تطوير قدراتها العسكرية وعرقلة نموها العلمي والاقتصادي المتزايد لتبقى إسرائيل المتفوق الوحيد في المنطقة ولا ننسى بأن الحرب الأميركية على إيران سببها احتضان إيران المتواصل للقضية الفلسطينية بالإضافة لدعمها لكل فصائل المقاومة في المنطقة.
لم يبق شيء في جعبة أميركا إلا واستخدم كوسيلة تكفل استمرار هيمنتها من خلال إشعال الفتن والخراب فأصيبت منطقتنا بتشظي المجتمعات وطمس الحضارات وتفتيت الجغرافيا لكن بعد صمود سورية الأسطوري ومحور المقاومة أضحى التأثير الأميركي على المنطقة منحسراً بفرض عقوبات اقتصادية ضد دول وشعوب مناهضة للسياسة الأميركية الإسرائيلية.
العقوبات الأميركية على الدول والشركات والمصانع وحتى على البنوك والأشخاص في كل من إيران وروسيا وفنزويلا والصين ولبنان وسورية لن تؤت أكلها ومن حسنات العقوبات أن العالم بات في طور البحث الجدي عن نظام تحويل جديد مشترك لتبادل العملة غير الدولار الأميركي تكون قابلة للتداول بين الدول المناهضة لترسيخ ليبرالية أميركا بمعنى آخر البدء بتصدع منظومة الدولار الأميركي ما ينبئ ببداية انهيار الامبراطورية المصرفية التي حكمت العالم.
أميركا أضحت في حال انكفاء لمصلحة روسيا والصين واستطراداً للمحور الممتد من إيران والعراق مروراً بسورية ولبنان وفلسطين ما جعل العدو الإسرائيلي مطوقاً مكبلاً محدود القدرة وصار باحثاً عن السبل التي تضمن بقاء هذا الكيان الغاصب على قيد الحياة بعد أن أصبح عاجزاً عن تحقيق أي انتصار عسكري.
انكشف العالم أمام حقائق بقيت بعيدة عن التداول لأنها كانت عبارة عن تزوير إعلامي أميركي أصاب معظم العالم بالانحراف الفكري وضباب الرؤية خصوصاً بعد نجاح وسائل الإعلام العربية والغربية بزرع الوهم في عقول ضعفاء النفوس لإقناعهم بأن أميركا هي المنقذ الوحيد وحامية الديمقراطية تنشد الحرية لبلادنا والمحافظة على حقوق الإنسان لأوطاننا.
سيحتاج التاريخ إلى مجلدات لا تنتهي صفحاته وذلك لكتابة قصة صمود سورية الأسطوري بوجه أعتى مؤامرة في تاريخنا المعاصر والذي أسهم في كشف المقاصد الحقيقية لعالم النيوليبرالية المتلطي خلف قناع الديمقراطية وحقوق الإنسان.
صمود سورية استطاع إسقاط ذلك القناع المزيف ما أتاح لها القدرة على تعزيز تحالفاتها الإستراتيجية مع روسيا وإيران والصين الأمر الذي شكل مرتكزاً أساسياً في تغيير وجه العالم وبناء نظام عالمي جديد.
في ما مضى وقبل الربيع العربي كانت دول المنطقة تترقب سياسات أميركا وإصدارات مراكز الدراسات فيها تنتظر تحولاتها السياسة الاقتصادية لنبني على الشيء مقتضاه ما جعل دولنا العربية بحالة المتلقي للإملاءات والمنفذ لما هو مطلوب أميركياً ولو كان المطلوب عكس مصالح دولنا ومنطقتنا.
وحدها الجمهورية العربية السورية التي بادرت إلى قيادة محور رفض للإملاءات الأميركية كما فعلت مع كولن باول في العام 2003 رغم محاولات تطويق سورية وتهديدها أمنياً منذ اجتياح العراق.
وإذا ما نظرنا إلى الجانب الملآن من الكوب وإلى مآلات الصمود لاكتشفنا بأننا انتقلنا من صفة المتلقي إلى صفة المقرر في رسم مصيرنا وبأيدينا.
إن تغيير وجه العالم جاء نتيجة صمود الحلف الإستراتيجي بين سورية وإيران مدعوماً من روسيا والصين ما أدى إلى قيام محور متماسك بإمكانه التصدي لمخططات صهيوأميركية للمنطقة.
أميركا اليوم لم تعد قدراً منزلاً خصوصاً بعد تحقيق الحلم بتشكيل هلال محور المقاومة الممتد من إيران والعراق وسورية ولبنان وفلسطين واليمن والذي أصبح أمراً واقعاً وشريكاً أساسياً ومؤثراً في رسم سياسيات ومستقبل المنطقة يصعب تجاوزه.
نخلص للقول إذا كان الخراب والدمار أصاب بلادنا العربية لكننا استفدنا من دروس وعِبر الصمود السوري مع محور المقاومة الذي أسهم في إحداث تحولات عالمية إقليمية تسمح لنا بالقول رب مؤامرة نافعة.